غزة الأكثر تدميرا عبر تاريخ الحروب… بالقنابل الغبية وبالذكاء الصناعي
السبيل – يعتبر بعض المراقبين أن التدمير الجاري في غزة هو الأكثر تدميرا عبر تاريخ الحروب؛ حيث إنه مستمر منذ ما يزيد على سنة وقنابل الجيش الإسرائيلي – ومن معه من الدول – ترجّ الأرض رجا، وصواريخه الانتقامية تدكّ الأحياء دكّا، وبراميلهم تفجر غزة حيّا حيّا.
وهي حرب تدمير مسعورة وإبادة أحياء مجنونة تقوم على سياسة الأرض المحروقة، وعلى المجازر المتواصلة؛ ليستمر التهجير والنزوح تحت القصف والتدمير بلا توقف.
يترك هذا التدمير وراءه جبالا من الأنقاض مليئة ببقايا بشرية، وذخائر وصواريخ لم تنفجر بعد، ونفايات سامّة ومواد خطرة.
يتوقف هذا التدمير المتوحش لبُرهة، فيتذكر من نجوا أن تحت هذا الركام، أحلام كثيرة دُفنت وتحت هذا الدمار الهائل بقايا صيحات ما زالت تنادي. وأنه كانت هناك حياة على شاطئ البحر، وأناس كانوا يجتمعون في المقاهي والمطاعم البحرية. وتلاميذ في طابور الصباح، وشُبّان يجتمعون حول التلفاز في المساء يتابعون مباريات كرة القدم.
يعاود العدو، ويغدر الآمنين بوابل غير مسبوق من الدمار بقنابل أمريكية يريدون تجربتها لأول مرة (في مختبر غزة)… يريدون أن يتفوقوا على ما فعلوه ببعضهم في الحرب العالمية الثانية، حين دمروا مدينة (ستالينجراد) في روسيا ومدينة (روتردام) في هولندا ومدينة (جورنيكا) في إسبانيا ومدينة (دريسدن) الألمانية – والتي تـُذكر كرمزٍ لتدمير مركّز من قبل أمريكا وبريطانيا، رغم أنه استمر يومين فقط -.
حجم الدمار في غزة:
يقول روبرت بيب – الكاتب في تاريخ القصف الجوي وهو عالم سياسي في جامعة شيكاغو -: “سيظل مصطلح (غزة) في التاريخ بجانب دريسدن ومدن أخرى شهيرة تعرضت للقصف”.
مع أن الحرب لم تتوقف في غزة بعد، ومستمرة منذ أكثر من ثلاثة عشر شهرا، وعلى مدار الساعة تستمر أهوال من القصف والتدمير والإبادة، كي يختبروا أشياء كثيرة، عبر تدمير كل ما فوق الأرض وعبر تجريف ذاكرة كل شيء عاش بين هذا الركام.
قالت صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية في 1 تشرين ثاني/نوفمبر الجاري: “إن الفلسطينيين يخشون أن يصبح شمال غزة غير صالح للسكن”. ووصفت القصف الإسرائيلي بأنه “لا يشبه أي قصف آخر في القرن الحادي والعشرين”.
وجاء في تحليلات لبيانات فضائية، ومنهم خبراء الاستشعار عن بعد في جامعة نيويورك وجامعة ولاية أوريغون: أن 80 بالمئة تقريبا من المباني في شمال غزة قد دُمّر، حيث كان القصف أكثر حدة، وقد تضررت أو دمرت. وأن نسبة الدمار في البنية الحضرية والمساكن في محافظة شمالي غزة يصل إلى 95 بالمئة، في حين باتت البنية التحتية مدمرة كليا بنسبة 100 بالمئة.
اعتمدت “إسرائيل” (عقيدة الضاحية) منذ حرب تموز/يوليو 2006، والتي تعود إلى تصريحات قائد الأركان الإسرائيلي الأسبق غادي إيزنكوت، ويعتمدونها الآن في لبنان وفي غزة، وتقوم على القوة المفرطة والتدمير والقتل الشامل لقلب موازين المعركة وتحويلها لأرض محروقة لا تعيش فيها مقاومة.
ألحَـقَ القصفُ في غزة أضرارا بكنائس بيزنطية ومساجد تاريخية ومصانع ومراكز تجارية وفنادق ومسارح ومدارس ومراكز إيواء، وقُصف العاملين في المنظمات الدولية والإنسانية. والإسعاف والأطباء، وقُصفت البنية التحتية للمياه والكهرباء والاتصالات والرعاية الصحية الخاصة بالقطاع غزة.
وتعرضت معظم الأراضي الزراعية للتلف والتدمير. وحتى المشاريع التي دشنتها دول المنطقة والمباني التابعة للأمم المتحدة والأنوروا ومنظمة الصحة العالمية قد تم استهدافها وتدميرها.
قُصفت مساجد غزة الحزينة، ودكت دكا، وأحرق الناس فيها ركعا وسجدا. فُجّرت المآذن وصام الأذان عن النداء الخالد. أحد هذه المساجد هو المسجد “العمري” الذي يعود إلى عهد عمر بن الخطاب… ويعتبر ثالث أكبر مسجد في فلسطين بعد الأقصى و”أحمد باشا الجزار” في عكا، وكذلك مسجد السيد هاشم الذي ينسب إلى هاشم بن عبد مناف جد النبي صلى الله عليه وسلم… والذي يعتقد أنه توفي فيه، ونسبت غزة له، وصارت تُسمى (غزة هاشم).
يعمل الاحتلال الإسرائيلي على إلغاء أي وجود للمعالم والمواقع الأثرية العريقة حتى التي تعود إلى العصور الرومانية والكنعانية، ويهدف إلى تدمير التاريخ الفلسطيني المتجذر في العرَاقة، وإلى طمس الوجود الثقافي والتراثي الفلسطيني في كل فلسطين.
علمانيو “إسرائيل” وصهاينتها من بذرة عداء واحدة
تستحضر العلمانيةُ الصهيونية وحكومة اليمين المتطرف في تدمير غزة ما في كتابهم “المقدس” لتكرار أحداثه التاريخية للتدمير باسم الرب. وهذا ما يؤكده ما يجري منهما الآن في فلسطين وحولها.
سُئل الحاخام اليهودي “مانيس فريدمان” عن الطريقة المثلى لتعامل اليهود بفلسطين المحتلة مع جيرانهم من العرب، وقد أتت إجابة “فريدمان” صريحة: “إنني لا أومن بالأخلاقيات الغربية،… إن الطريقة الوحيدة لخوض حرب أخلاقية هي الطريقة اليهودية: دمِّر أماكنهم المقدسة، واقتل رجالهم ونساءهم وأطفالهم ومواشيهم…”.
تدمير بالقنابل الغبية وبالذكاء الصناعي
يقول تقرير للمخابرات الأمريكية في 14 كانون أول/ ديسمبر 2023 “إن نصف القنابل التي ألقيت على غزة كانت قنابل غير موجّهة”، والقنابل غير الموجهة هي (قنابل غبية يسقطها العدو سقوطا حر عشوائيا على أي هدف كان؛ بهدف تدمير الحجر والبشر وهو ما يعرف بـ (قتل المنازل).
تتواصل سلاسل توريد كل أنوع القنابل والأسلحة التدميرية لدولة الاحتلال من دول كثيرة، منها ثلاث دول تملك حق الفيتو (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا). الولايات المتحدة – صاحبة حق الفيتو الدائم – ضد القضية الفلسطينية تدعم بنسبة 69 بالمئة – بحسب ما ذكره معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام -. بالإضافة لهذه الدول تأتي ألمانيا في المركز الثاني بعد الولايات المتحدة في تصدير السلاح للجيش الإسرائيلي – هي ليست دولة فيتو، لكنها (دولة عُقدة) – التي ظلمت اليهود، فأصبحت دولة الظلم التي تحارب غزة بهم.
ومن هذه الأسلحة التدميرية (البراميل المتفجرة) وهي (وعاء معدني على شكل برميل أو وعاء إسمنتي أو أسطوانة معدنية، يتم ملؤها بالمواد شديدة الانفجار والوقود لإحداث حرائق في أثناء سقوطها، بالإضافة إلى شظايا معدنية ومسامير، ومدى انفجارها قد يشكل دائرة قطرها يصل إلى نحو 250 مترا).
وبسبب الأثر التدميري لهذه البراميل الغبية، صدر قرار مجلس الأمن رقم 2139 عام 2014 بإدانة استخدام البراميل المتفجرة بوصفها أسلحة إرهابية وغير نظامية، ولا يمكن أن تستخدم بهذه الطريقة العشوائية التي تؤدي إلى تدمير كبير.
فوق ذلك يغامر جيش الاحتلال، ويترك اختيار [الأهداف] المراد قصفها وتدميرها للذكاء الصناعي، وقد حدد عشرات آلاف الأهداف (المحتملة).
ويعتبر هذا استهتارا بحياة المدنيين وبكل ما على أرض غزة؛ يقول أحد ضباط المخابرات الإسرائيليين: “لا نريد أن تضيع قنابل باهظة الثمن على أشخاص غير مهمّين؛ فهي مكلفة للغاية بالنسبة للبلاد، وهناك نقص في (تلك القنابل)”.
وبالقنابل الغبية وبالذكاء الصناعي تقصف “إسرائيل” وتدّمر أحياءً سكنية، وتبيد عائلات كاملة؛ بهدف تهجير سكان غزة، وتعمل على خلق نموذج جديد في المنطقة دون مراعاة للقوانين والمنظمات الدولية.
جاء في تقرير صحيفة /فرانس 24/ الصادر في 14 تشرين ثاني/نوفمبر 2024: “الدول الأخرى غير مستعدة لمحاسبة إسرائيل، وتستمر في تزويدها بالدعم العسكري وغيره من أشكال الدعم”. مع أن ما خلّفه العدوان الإسرائيلي على غزة من دمار يماثل أكثر الحملات تدميرا في التاريخ الحديث كما وصفته صحيفة ” وول ستريت جورنال” الأميركية في تقريرها في 30 كانون أول/ديسمبر 2023.
بالمجمل يصف الخبراء حملة تدمير غزة بأنها إحدى أشد الحملات الجوية كثافة وتدميرا في التاريخ الحديث، وهذا ما ذكره كثيرون، ومنهم ديفيد غريتن لمحطة /بي بي سي/ البريطانية في 5 نيسان/أبريل 2024.
وبدلا من أن تتخوف “إسرائيل” من ملاحقتها من قبل المحاكم الدولية؛ فإنها تهدد الضفة الغربية بالتدمير والتهجير الشامل. ومن ذلك ما دعا إليه وزير الدفاع الإسرائيلي (يسرائيل كاتس) الجيشَ الإسرائيلي لإجبار الفلسطينيين على إخلاء شمال الضفة الغربية.
وبين الماضي والحاضر يستدعون ذاكرتهم وتجربتهم عندما دمّر جيشهم وعصاباتهم الصهيونية، وهجّروا سكان 418 قرية في فلسطين في نكبة عام 1948. حيث استخدموا حينئذ البراميل المتفجرة أيضا، ويكررون قبل أيام قليلة استخدام براميل أشد فتكا وانتقاما قبل أن يفجروها عن بعد لتوفير الخسائر البشرية والاقتصادية.
أسئلة الإعمار بين ركام غزة
كلما طال أمد الحرب، وكلما استمر الاحتلال كلما تعقّدت إمكانية إعادة إعمار غزة لتستغرق عشرات السنوات، ولتحتاج مليارات أكثر من الدولارات لإزالة الأنقاض ولإعادة التأهيل والإعمار.
جاء في دراسة لمؤسسة “راند” البحثية الأميركية – قبل عدة أشهر – (إن إعادة إعمار قطاع غزة سيكلف أكثر من ثمانين مليار دولار، وإن إزالة الأنقاض وحدها ستكلف ما يزيد على سبعمئة مليون دولار).
الخطوة الأولى تكون بانتهاء الاحتلال وإيجاد واقع سياسي يسمح بإعادة الإعمار. بدءاً بإزالة الأنقاض، وإزالة الألغام والذخيرة غير المنفجرة، وقبل إعمار وتأهيل البيوت والناس للسكن، لا بد من إيجاد بُنية تحتية للمياه، والغاز، والصرف الصحي، وكذلك إعادة تأهيل تربة صالحة للزراعة، والتي دمرت بمواد ونفايات سامة محظورة دوليا.
لكن، يبقى سؤال إمكانية إعادة الإعمار موجودا وسط كل كومة ركام، وسيبدأ امتحان الجميع في (اليوم التالي للحرب).