علم نفس الكذب.. سياحة داخل عقل السياسي الغربي

كتب: عبد الرحمن نجم
لا يكاد يختلف اثنان في الكوكب على وصف الهيئات الأممية والمنابر الدولية بـباقة الأكاذيب الأنيقة! كما لا يكاد أحد يشك في أن السياسيين في العالم لَكَأنهم يتبارون فيما بينهم أيهم أكذب تبريرًا، وكأنهم في مسابقة عالمية للفوز بكأس الكذب!
ولكن لماذا يتعمد السياسيون الكذب علنًا بهذه الطريقة الفجة؟
وبصيغة أوضح: لماذا يتعمد الغرب الكذب الفاضح، فيما لا كَذَب فيه، إلى حد يثير اشمئزاز السامع، وتقززه من هول الأكاذيب المفضوحة؟!
إن تَبَلُّد الأحاسيس الغربية، وموت ضميرها تجاه مشاهد المحرقة العلنية لأهل غزة كما لو أنها تشاهد برنامجًا للطبخ الصحي، في مقابل رَهَافة مشاعرها ورِقَّتها تجاه الكيان الصهيوني ليس جديدًا علينا، لكنه يَسْتحضر سؤالًا يتصل بعلم النفس السياسي (سيكولوجية السياسي): كيف لبشر مثلنا من لحم ودم ألا تُحرضهم صور العدوان الإسرائيلي، ومجازره الدموية، وأشلاء الأطفال الـمُمَزقة، على الوقوف إلى جانب أصحاب الحق والأرض الـمُذَبَّحين؟!
إن الانحياز القصدي إلى الاحتلال الصهيوني -على اشتهار إجرامه المبثوث على الهواء مباشرة- هو النتيجة، وليس السبب الحقيقي وراء سَوْق السياسيين أكاذيب تتهاوى أمام كاميرا تبث وتصور المذابح الفظيعة المرتكبة بأهل غزة الثابتين.
وحتى نفهم ما يجري داخل عقل السياسي الغربي؛ لا بد من الإلمام بالآتي بالتوازي مع استذكار كل مبررات حروب الألفية الثانية بدءًا من 11 سيبتمبر 2001 التي طَوَّعت لهم غزو أفغانستان، ثم فِرية أسلحة الدمار الشامل في العراق 2003، وصولًا إلى تخريب “الربيع العربي” 2011 تحت ستار الحرص على الديمقراطية في العالم العربي، وليس انتهاءً بزفة النِّياحة على المدنيين من “كِلَا الجانبين” مع كل حرب في غزة (2009، 2012، 2014، 2021، 2023):
1- تؤمن النخب الغربية والطغمة السياسية بـ”الواقعية السياسة” التي من ضمنها أنْ “لا علاقة بين الحرب والأخلاقيات”= المذهب النفعي، وقد أجاد المفكر الإسلامي علي عزت بيجوفيتش في إيجاز الأمر في كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب” إذ يقول: “الأخلاق النفعية ليست أخلاقًا حقيقية؛ فهي تنتمي إلى السياسة أكثر من انتمائها لعلم الأخلاق”.
2- يؤمن الغرب بإستراتيجية “الأكاذيب النبيلة” -وفق التسمية الأفلاطونية- كجزء من العمل السياسي، وأن “النجاح يَغفر الكذب عندما يتعلق الأمر بالسياسة”، كما يقول جون جي. ميرشيمر في بحثه المعنون بـ”لماذا يكذب القادة: حقيقة الكذب في السياسة الدولية”.
3- “الكذب الدولي ليس بالضرورة فعلًا خاطئًا؛ فكثيرًا ما ينم على فِراسة، وقد يكون ضروريًا، بل فاضلًا في بعض الظروف”، يقول البرفيسور ميرشيمر في البحث ذاته.
4- بقراءة كتاب “الأمير” لنيكولو ميكافيلي، السياسي الإيطالي اليهودي، نجد أن تصريحات السياسيين وأفعالهم اليوم تطبيق عملي لِوَصَفاته ونصائحه النظرية التي تكلم فيها صراحةً عما يُسميه “العنف المقدس”؛ إذ يقول:
“مَن يَحتل مدينة حرة، ولا يقوم بتدميرها؛ فإنما يحكم على نفسه بالهزيمة”.
“لا يمكن للأمير أن يتحرى الفضائل المحمودة؛ لأنه يكون مضطرًا من أجل الحفاظ على سلطانه إلى سلوك طريق معاكس للوفاء والإحسان والإنسانية والتدين”.
“لابد من التظاهر بالنزاهة والتدين، مع ضرورة اللجوء إلى استعمال الشر عند الاضطرار”.
5- استنادًا إلى حقيقةِ أنَّ شرعية الدولة ترتبط بالظروف والملابَسات التي صاحبت وِلادتها؛ فإن “ولادة دُولهم جاءت من رَحِمِ الخطيئة!”، كما يقول ميرشيمر.
6- بحسب ميرشيمر، فإن الأساطير الشوفينية سعت لتكريس هُوية مُصْطَنَعة لها، آخذةً بالحسبان النهج الآتي في سبيل تحقيق ذلك: “تقديس الذات، تنقيتها من الأخطاء، الإضرار بالآخر”= تمامًا مثل “الصهيونية” التي هي في الأصل حركة عَلْمانية تحالفت مع التوراة المحرفة لاختراع مبررات دينية تُثبت: أنهم شعب الله المختار، الحق التاريخي لليهود في فلسطين، هيكل سليمان، إسرائيل الكبرى.
7- العولمة في محصلتها النهائية –كما ذكر د.عبد الله محمد الأمين في كتابه “الرؤية الإسلامية والمسألة الحضارية”- محاولةٌ لنفي “الآخر”؛ لأنها وفق التصور الغربي لها بالدرجة الأولى “أيديولوجيا تعكس إرادة الهيمنة على العالم”.
8- الحضارة الغربية المعاصرة تنطلق إما من: “مثالية” تجعل من الإنسان مركزًا للكون (مركزية الإنسان) أو إلهًا، أو: “واقعية” تُؤَلِّه المادة، فتجعل من اللذة والمنفعة هدفًا وغاية بذاتهما= الواقعية السياسية.