النقض تحت ستار النقد.. حين لا تسمح الظروف ومشاعر الجمهور بالانقضاض على المقاومة مباشرة
- المقاومة تسمح بالنقد وتجري مراجعات مستمرة لأنها ترفض خداع الذات
- الحالة الديمقراطية لحماس فريدة في الحياة السياسية الفلسطينية المعاصرة
- هناك من يحاول أن يجعل من النقد مقدمة للاستسلام بقصد نقض المقاومة لا نقدها
السبيل- خاص / كتب: أحمد الحاج علي
هل يجوز نقد المقاومة؟ ومن له الحق في هذا النقد؟ وهل نقد المقاومة يأتي لتصويب عملها وأدائها الميداني، وتحصين أهدافها السياسية، أم أن الهدف نقض مبدأ المقاومة؟
إذا كانت هذه الأسئلة قديمة قِدم المقاومة الفلسطينية نفسها، فإنه بعد السابع من أكتوبر أصبحت أكثر إلحاحاً، وتكاد تتصل بمستقبل كل فرد في المنطقة، خصوصاً أن عملية السابع من أكتوبر كانت ذروة المجد، وما تلاها كانت الإبادة التي لم تشهدها المنطقة منذ وُجد المشروع الصهيوني، فأيقظ ذلك اليوم نقيضين: الفخر بما أُنجز، والأسى على الدماء والدمار؛ فازداد النقاش حول المقاومة وأساليبها وخططها.
المرونة سر المقاومة
حول نقد المقاومة من حيث أساليبها، فإن المقاومة تعتبر نفسها تجربة بشرية خاضعة للقياس والتعديل، فلذلك نراها خلال تاريخها الطويل غيّرت الكثير من أساليبها، حسب المرحلة ومتطلباتها، والظروف السياسية المحيطة، وطورت أداءها، ولم يكن الجمود صفة ملازمة لحضورها، بل اتصفت بالمرونة التي سمحت لها بالبقاء، وهي تدرك قوة عدوها، ومتانة تحالفاته، وامتداداته الدولية، ودوره الوظيفي في خريطة الاستعمار الدولي المتعدد الأشكال. فمرة تستخدم العمليات الاستشهادية، وتارة تُحجم عن تنفيذها، ثم تعرض هدنة، وتطلق صواريخ؛ حسب الظرف؛ ووفق قراءتها للداخل الصهيوني والخريطة الإقليمية والدولية.
الاستفادة من التجارب
هناك من يظن أن عمل المقاومة قائم على الانفعال، وردود الفعل، ولا يدرك أنها تُخضع قراراتها وآليات عملها لنقاش معمّق، ومطبخ يتخذ ما يجب من القرارات حسب كل مرحلة، يتواجد فيه خيرة المفكرين، يستحضرون كل التجارب الحديثة السابقة من ثورة الفلاحين في الصين، إلى تجربة الأنصار في يوغسلافيا إلى الفيتكونغ في فيتنام، وصولاً إلى تجربة جيش التحرير الوطني في الجزائر وما تلاها، مع الإدراك لخصوصية المقاومة الفلسطينية، وطبيعة النظام الإحلالي الذي تواجهه.
مقاومة تسمح بالنقد
المقاومة تسمح بالنقد لأنها ترفض خداع الذات، بل هي في مراجعات مستمرة؛ الأمر الذي مكنها من استيعاب كل الضربات التي تعرضت لها، من اغتيالات وأسر وإبعاد، وسمح لها بأن تتطوّر. وإذا أخذنا مثالاً فصيل المقاومة الفلسطينية الرئيسي، فإن كل الرهانات على الانشقاقات الواسعة بعد 37 عاماً من انطلاقته فشلت، وذلك يعود لعدة أسباب، قد يكون أهمها: هامش النقد الواسع داخل صفوفه، واستيعاب كل الآراء المتناقضة التي بالنهاية شكلت غنًى وإضافة للتجربة المتميزة في ميدان الصراع.
ومما يُحسب أيضاً أن الحالة الديمقراطية لفصيل المقاومة الرئيسي الذي هو حماس، قد تكون فريدة في الحياة السياسية الفلسطينية المعاصرة، وهو ما سمح بتغييرات دائمة في مختلف المستويات القيادية، ولو لم يكن الحس النقدي -الذي هو جوهر العملية الديمقراطية- موجوداً، لما كان يمكن أن تحدث هذه التغييرات.
النقض لا النقد
إذا كان النقد مسموحاً، بل مرغوباً داخل جسم المقاومة، ومنظوراً أحياناً للمتابعين، وفي أغلب الأحيان تظهر نتائجه في السلوك اليومي للمقاومة، فلماذا يبدو التبرّم مرات كثيرة من نقد المقاومة؟ لأن هناك من يحاول أن يجعل من النقد مقدمة للاستسلام، وينتقد فرعاً في أداء المقاومة لينقض على الأصل حين تسمح الظروف. فيوجه سهماً باتجاه الصاروخ، أو نقداً لاذعاً للعمليات الاستشهادية “التي لا تراعي المصلحة”، أو يصرخ بأن عملية 7 أكتوبر “لم تنظر لموازين القوى”، والقصد هو نقض المقاومة لا نقدها، طالما أن الظروف ومشاعر الجمهور لا تسمح بالانقضاض على المقاومة مباشرة.
نماذج نقض
لدينا ثلاثة نماذج في أزمنة متفرقة، تثبت هذا الاتجاه الناقد للمقاومة بانتظار الفرصة السانحة لتحطيمها.
1- أول هذه النماذج التاريخية، وربما الأشهر، هي: فصائل السلام التي انحنى مؤسسوها لرياح الثورة عام 1936، وربما انضم بعضهم بداية لها تقية. ثم راحوا ينتقدون أساليب عملها، وخصوصاً في قتل العملاء، و”تعريض أملاك الناس ومزروعات الفلاحين للدمار”.
وفي النصف الثاني من عام 1938، كشفوا عن خطتهم ونواياهم تجاه المقاومة، وشكلوا قوة عسكرية، وراحوا، برفقة الجيش البريطاني، يلاحقون المقاومين ويقتلونهم. ووصل بهم الأمر حد التآمر والمشاركة بقتل زعيم الثورة الكبرى عبد الرحيم الحاج محمد. بغض النظر عن مآلات قادة فصائل السلام، إلا أنهم سلكوا بداية مسلك نقد المقاومة، حتى وصلوا إلى مناهضتها بالسلاح.
2- النموذج الثاني هو محمود عباس الذي اختار منذ منتصف السبعينيات نقد المقاومة برفضها الانفتاح على اليسار الإسرائيلي، وبالفعل بدأ يرسل الوفود وهو أول من هندس اللقاءات مع الإسرائيليين. وفي أواخر السبعينيات راح ينتقد أسلوب إطلاق الصواريخ، رغم ما أنجزته معركة المدفعية عام 1981. وللدقة والأمانة التاريخية، بعد تلك المعركة أيد استخدام الصواريخ، ولا نعرف إن كان مرغماً أو مقتنعاً. وحكايته في الانتفاضة الثانية ضد العسكرة معروفة، لكن ما يهم أنه انتهى بتقديس التنسيق الأمني، ورفض أي عمل مسلح، أو حتى مقاومة شعبية، رغم تغوّل الاحتلال في الضفة.
3- المثال الثالث هو القيادي عصام السرطاوي الذي اجتمع بالإسرائيليين مبكراً، لكن ما يلفت رفضه الحديث عن أي انتصار تحققه المقاومة. وفي مؤتمر المجلس الوطني بالجزائر عام 1983، عندما راح المتحدثون يشيدون بصمود المقاومة ببيروت خلال الاجتياح قبل عام من ذلك، وسمّى بعضهم ما حصل بالانتصار، وقف السرطاوي وقال ساخراً: “انتصار آخر ونعقد مؤتمرنا القادم في جزر سيشيل!”؛ أي أن السرطاوي انتقد أداء المقاومة ليصل إلى رفضها، ثم كان اللقاء في العام نفسه بشمعون بيريز.
خلاصة القول.. إن نقد أسلوب من أساليب المقاومة أمرٌ لا تنكره المقاومة، إنما ما تنبذه أن يكون مبدأ ممارسة المقاومة مرفوضاً، ويُتخذ من نقد أسلوب طريقاً للتشكيك بالمبدأ، خاصة أن الذين يرفضون المقاومة لا يطرحون طريقاً لمواجهة الاحتلال، إلا إذا كانوا يعتبرون أن الطريق الذي أدّى إلى قضم الضفة، ما زال يصلح للسير فيه، والتعثر في الحفر نفسها.