الحساب البنكي وإدانة الماضي.. لماذا يريد “أبناء الهزيمة” غزةَ مهزومة؟

- الهزيمة لم تقع إلاّ في عقل من أرادها نهاية لقضية وانطلاقة جديدة لمشروعه
- أبناء الهزيمة يصعب عليهم تقبل أي فكرة انتصار
- أي اعتراف بانتصار لا يحققونه هم يعني إدانة لماضيهم واعترافاً بعجزهم التاريخي
- من أبجديات المقاومة أنها تنطلق من عدم تكافؤ القوة وبالتالي فإن تكلفتها تكون عالية جداً
كتب: أحمد الحاج علي
فلنسمّها هزيمة إن أردتم، وننحي كل الشواهد التي تشير إلى انتصار المقاومة. لنغمض أعيننا عن الاستقالات داخل الحكومة الصهيونية، ولنتجاهل مقالات عشرات الكتاب الصهاينة من العيار الثقيل والتي تقول بانتصار المقاومة. ولنفترض أننا لم نعرف بكل الأهداف الإسرائيلية من الحرب، والتي فشلت جميعها. ولنتبنى -افتراضاً- آراء بعض الساسة في رام الله من أن المقاومة في غزة هُزمت، لكن يبقى الخلاف المركزي حول: ماذا بعد؟
إنهم يريدون للاعتراف بالهزيمة أن يجرّ استسلاماً نهائياً للمقاومة الفلسطينية، وليس لحركة حماس وحدها؛ ما يعني انتصاراً نهائياً للعدوّ، يسمح بتنفيذ كل مخططاته باستلاب الأرض، وصولاً إلى التهجير الكامل والشامل، كما يفترض عتاة اليمينيين في الكيان. إنهم يريدون أي استقرار، ولو كان استقرار الموتى، أو العاجزين الذين سُلبوا إرادة الحياة، ومعنى الحرية.
فلنسمّ هذا الدمار هزيمة، مع أنه من أبجديات المقاومة أنها تنطلق من عدم تكافؤ القوة؛ وبالتالي فإن تكلفتها تكون عالية جداً، والشواهد كثيرة. لكن هل هزيمة مفترضة للمقاومة يجب أن تقود إلى الاستسلام؟ كان دعاة الهزيمة يلقوننا يوم كنا أطفالاً في مخيمات لبنان أن معركة الكرامة كانت رداً على هزيمة عام 1967. وتدريس “المسيرة الكبرى” كان جزءاً أصيلاً من أدبياتهم، وهي المسيرة التي قطع فيها ماو تسي تونغ وجيشه حوالي 9000 كلم عام 1934، فاراً من قوات القوميين الصينيين (الكومينتانج)، وفقد خلال هذه المسيرة أكثر من نصف جيشه. ومع ذلك اعتبروه انتصاراً مهّد لهزيمة القوميين بعد 15 عاماً، وكانوا محقين، لأن الإرادة بقيت ولم تنكسر.
ويمكن القياس على ذلك بأمثلة كثيرة في كل ثورة تقريباً، من الفيتكونغ في فيتنام إلى حرب الأنصار في يوغسلافيا وغيرهما. وكان ياسر عرفات يردد “الثورة كسلسلة من النكسات المؤقتة حتى النصر النهائي”. لكن العديد من السياسيين الفلسطينيين والعرب يجهدون لتثبيت واقع الهزيمة ومعناها، فما أسباب هذا الحرص على إثبات وصف الهزيمة عما جرى في غزة؟
أولاً، تحول العديد من السياسيين إلى رجال أعمال؛ فالسياسي جوهر عمله المجتمع، بما فيه استقلاله، ورجل الأعمال غالباً يبحث عن الربح السريع، وما يتطلبه من استقرار بأي شروط. ورؤوس الأموال المستجدة بالضفة الغربية بأغلبيتها، متشابكة مع الفساد، ومترابطة مصالحها بمصالح الاحتلال، ومستعدة أن تلبي شروط الاحتلال من أجل استقرار مزيف، في سبيل مصالح ذاتية تتناقض مع مصالح الجمهور، والمقالات والكتب التي تتحدث عن هذا الموضوع كثيرة.
القضية الأخرى أن هؤلاء هم أبناء الهزيمة، فيصعب عليهم تقبل أي فكرة انتصار، أولاً لأن هذه مُسحت من وعيهم، وثانياً لأنهم في البعد النفسي، أي اعتراف بانتصار لا يحققونه هم، فيعني إدانة لماضيهم، واعترافاً بعجزهم التاريخي.
المسألة الثالثة أن هؤلاء الذين يسمون ما حصل هزيمة، بعضهم واقع تحت تأثير فكرة عجز الشعب، ولا يؤمنون بأية قدرات إبداعية يمكن أن يجترحها الشعب، في صراعه المستمر مع الاحتلال. وينطبق عليهم ما كان يقوله المفتي أمين الحسيني عن رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد: “كان خطأ سياسته أنها تعتمد على الربح السياسي الذي تقدمه فرص الخلافات بين الدول العظمى دون أن يعطي للشعب الدور الأول”. وهؤلاء أنكروا أية قدرات للشعب.
خلاصة القول، إن الهزيمة لم تقع إلاّ في عقل من أرادها نهاية لقضية، وانطلاقة جديدة لمشروعه الذي زاوج بين السياسة وحسابه البنكي، فراكم الفشل، ويريد تعميمه ليصبح سلوكاً جماهيرياً، واستسلاماً نهائياً، وهو ما ترفضه شعوب المنطقة ومقاومتها، وترى في معركة غزة بداية لواقع جديد.