الأخبار

الظاهرة الصهيونية في إطار الاتجاه الخطي لتحلل الاستعمار الاستيطاني

ديسمبر 2, 2024 4:31 م
وليد عبد الحي

(*) خاص بمركز الزيتونة للدراسات والاستشارات- بيروت 

مقدمة:

تتفق أغلب أدبيات دراسة ظاهرة الاستعمار الاستيطاني على نقطتين جوهريتين هما: اتجاه التحلل الخطي linear لظاهرة الاستعمار الاستيطاني عبر مراحله التاريخية من ناحية، ومركزية التناسب الديموجرافي بين المجتمع المحلي الأصلي وبين المستوطنين الوافدين في تحديد مسار التحلل من ناحية ثانية، ولعل ذلك ما يدفع إلى طرح التساؤل التالي: إلى أي مدى تنطبق هاتين الظاهرتين على الكيان الاستيطاني في فلسطين، وهل يعزز طوفان الأقصى هذا التوجه؟

ومن الضروري الإشارة الى أن إدراج الظاهرة الصهيونية في إطار الاستعمار الاستيطاني هي ما تقرّه أبرز أدبيات آباء هذا المشروع، فجابوتنسكي Jabotinsky وهرتزل Herzl يصفانها بأنها استعمار استيطاني حرفياً، وهو التوصيف الذي يتبناه مفكرون إسرائيليون معاصرون.[2]

أولاً: رصد الاتجاه التاريخي ودلالاته:

يستوجب رصد الاتجاه التاريخي الأعظم Mega-trend لظاهرة سياسية فترة زمنية طويلة للتعرف على “قوة تلك الظاهرة وثبات اتجاهها العام عبر تلك الفترة الطويلة”، على الرغم من أنها تتعرض لتغيرات مختلفة في جوانبها كما هو حال ظاهرة الاستعمار الاستيطاني.

وتميل أغلب الدراسات المتخصصة في ظاهرة الاستعمار الاستيطاني إلى اعتبار أن أدبيات الموضوع بدأت في دراسات حول أستراليا ثم انتقلت إلى بعض المجتمعات الغربية ثم إلى دول العالم المتبقية ضمن إطار الاستعمار الاستيطاني، وتشير أغلب هذه الدراسات إلى أن مصطلح الاستعمار الاستيطاني Settler Colonialism ظهر في عشرينيات القرن الماضي، لكن تعريف الاستعمار الاستيطاني في كافة الدراسات يقوم على أساسين هما: الأول هو السيطرة بالقوة على المكان (دولة أو إقليم أو مقاطعة…إلخ)، والثاني العمل على إحلال العنصر الوافد (المستوطن) محل العنصر المحلي (المواطن) سواء بالتهجير أم بالابادة الجماعية، وهو ما يفترض التمييز بين الهجرات العادية، بغض النظر عن حجمها، وبين الاستيطان القسري بالقوة العسكرية والذي يعمل على تفكيك المجتمع المحلي وتهجيره أو إبادته، وتغيير البيئة الاجتماعية بإحلال سكان جدد محل المجتمع الأول، وتغيير ملامح الطبيعة والذي يصل إلى حدّ تغيير أسماء الأماكن والمدن وأنماط الإنتاج واللغة والفنون والأزياء…إلخ،[3] وهي ما تشير له عبارة ثيودور هرتزل Theodor Herzl في قوله “إذا أردت استبدال بناء قديم بآخر جديد، فلا بدّ من هدم القديم”.[4]

ذلك يعني ضرورة التمييز بين الاستعمار الاستيطاني وبين الاستعمار التقليدي القائم على الاحتلال العسكري والسيطرة على المكان دون القيام بإبادة أو تهجير السكان المحليين، فأغلب الدول العربية والإفريقية والآسيوية مثلاً خضعت للاستعمار لكنها لم تخضع للتهجير أو الإبادة وإحلال مجتمع أجنبي مكان سكانها.

ولعل ما يستحق الإشارة له أن أغلب الدراسات التي تتناول الاستعمار الاستيطاني تولي الظاهرة الصهيونية اهتماماً واضحاً وتُدرجها ضمن أبرز حالات الاستعمار الاستيطاني. ويكشف أحد الباحثين في دراسة تفصيلية لمضمون مجلة علمية متخصصة في موضوع الاستيطان كظاهرة استعمارية عالمية، أن الاستيطان اليهودي يحتل المرتبة الثانية (بعد دراسات الاستعمار الاستيطاني في أمريكا الشمالية وأستراليا) من حيث التكرار، وبنسبة تصل إلى 26.3% من مجموع ما تمّ نشره في تلك المجلة المتخصصة خلال الفترة 2021-2011.[5] وهو ما يعني أن أي تغييب للبعد الاستيطاني من دراسات الكيان الصهيوني يشكل خللاً منهجياً متعمداً لدوافع سياسية.

وتكشف المتابعة التاريخية أن تحلل الاستعمار بأشكاله المختلفة، الاستيطانية وغير الاستيطانية، أخذ طابعاً خطياً واضحاً، فقد كان تعداد سكان المستعمرات في العالم عند اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914)، وهي ذروة الاستعمار، 560 مليون نسمة، منهم 70% يعيشون في مستعمرات بريطانية، و10% في مستعمرات فرنسية، و9% في مستعمرات هولندية، و4% في مستعمرات يابانية، و2% في مستعمرات ألمانية، و2% في مستعمرات أمريكية، و3% في مستعمرات برتغالية، و1% في مستعمرات بلجيكية، و0.5% في مستعمرات إيطالية،[6] وحتى بداية الستينيات من القرن الماضي إلى نهاية الثمانينيات منه، كانت بريطانيا تستعمر 17 دولة، وفرنسا 21 دولة، والبرتغال 5 دول، إلى جانب 3 دول تحت الاستعمار البلجيكي، لكن موجة الاستقلال كانت هي الأقوى في فترة الستينيات (29 دولة)، تليها فترة السبعينيات (8 دول)، ثم فترة الثمانينيات (4 دول)، أما الباقي فحصل على الاستقلال قبل الستينيات أو بعد التسعينيات (13 دولة، بعضها لم يكن تحت الاستعمار الأوروبي بل انشق عن دول قائمة).[7] وتدل الدراسات المتخصصة في هذا الجانب أن الموجة الكبرى لتفكك الاستعمار وخصوصاً الاستيطاني وقعت خلال الفترة 1975-1945، وهي الظاهرة التي تنبأ بها الاقتصادي الألماني موريتز جوليوس بون Moritz Julius Bonn سنة 1932، وكان بذلك هو أول من طرح مصطلح تفكك الاستعمار Decolonization.ا[8] ويرى بعض الباحثين في تفكك الاتحاد السوفييتي خلال الفترة 1991-1985 بأنه امتداد لظاهرة تفكك الظاهرة الاستعمارية، على الرغم من أن هذا الرأي فيه بعض الجوانب التي لا تنطبق على الظاهرة الاستيطانية بشكل دقيق.[9]

خلاصة الأمر في الاتجاه التاريخي، أنّ المؤشرات الكمية تشير إلى أنه منذ نهاية القرن الخامس عشر وصولاً إلى سنة 1800 كان نحو 35% من مناطق العالم قد خضعت للاستعمار بأشكاله المختلفة، وتزايدت هذه الظاهرة وصولاً إلى نحو 84% مع بداية الحرب العالمية الأولى، ثم بدأت موجة الانحسار الخطي مع نهاية الحرب وصولاً إلى المرحلة الحالية التي فيها نحو 10 ملايين فقط من إجمالي سكان العالم يخضعون حالياً للاستعمار الاستيطاني أو غيره من أشكال الاستعمار، ويمثل الكيان الصهيوني أبرز وأكبر هذه الكيانات الاستيطانية الحالية.[10]

لكن الملاحظة الأهم هي أن كل المجتمعات الاستيطانية دون استثناء واجهت ثورات مسلحة وحروب عصابات، وتماثلت سلطات هذه المجتمعات الاستيطانية في توصيفها للثورات التي اشتعلت ضدها، فكل هذه السلطات عدّت الثورات “تمرداً، أو إرهاباً، أو تخريباً…إلخ”، وشكَّل العداء الغربي بشكل خاص لهذه الثورات القاسم المشترك بين ظواهر الاستعمار الاستيطاني كافة ومن ضمنها الظاهرة الصهيونية.

ومن خلال رصد ظاهرة التحلل الاستعماري، يتبين أن العوامل الفردية ليست هي المتغير الحاكم لهذه الظاهرة وإن كانت تُسهم فيها، فعلى الرغم من كل المناقشات المثيرة للجدال حول وزن العوامل الفردية، فقد برز نموذج تفسيري يحاول الجمع بين المناهج النظرية المختلفة لتفسير تفكك الاستعمار بكافة أشكاله، ويرى هذا النموذج أن تحلل الاستعمار كان نتيجة لتطورات ثلاثة هي:[11]

1. تطور المدن الكبرى الحاكمة “نظرية المدن الكبرى Metropolitan”.

2. قوة ونشاط حركات الاستقلال المتزايدة في المحيط “نظرية المحيط Periphery”.

3. التحولات في السياسة الدولية خصوصاً الحراك في بنية القطبية الدولية.

وعلى هذا، فإن الأسباب التي أدت إلى تفكك الحكم الاستعماري لا يمكن العثور عليها في عنصر واحد معزول فحسب، بل في التفاعل بين القوى الحضرية في المركز الاستعماري وفي المحيط بهذا المركز وفي بنية العلاقات الدولية، لكن المتغير الديموجرافي يُشكِّل بُعداً مهماً في التطور الأول والثاني، وهو ترابط مرَّ بمراحل أربعة هي:[12]

المرحلة الأولى: 1826-1776: وهي التي عرفت ثورات في كل من أمريكا الشمالية والجنوبية ضدّ المتروبول الاستعماري (المركز) والأطراف (المستعمرات في الأمريكيتين).

المرحلة الثانية: 1931-1839: وهي المرحلة التي تنامت فيها النزعة الاستقلالية عن المركز الأوروبي (خصوصاً البريطاني) لدى المستوطنين في كل من كندا وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب إفريقيا، أي هي مرحلة انفصال المجتمع الاستيطاني عن المجتمع الأم (الأوروبي).

المرحلة الثالثة: 1975-1935: وهي مرحلة تفكك الاستعمار الأوروبي في إفريقيا، حيث استقلت 27 دولة إفريقية عن المركز الأوروبي خلال ثلاثين عاماً، وقد كانت هناك اختلافات كبيرة بين المناطق المختلفة من حيث طبيعة الوصول للاستقلال، فبعضها نتج عن حالات انتقال سلمي، بينما تمّ بعضها بثورات مسلحة عنيفة للغاية من أجل التحرر. ولعبت مجموعة من العوامل دورها في الدفع باتجاه تبني خيار الثورات، مثل أخطاء السياسات الاستعمارية، وقوة الحركات المناهضة للاستعمار، وانعكاسات المواجهة في الحرب الباردة، والأهمية المتزايدة للمنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، وظهور نظام لحقوق الإنسان الدولية…إلخ.

المرحلة الرابعة: 1991-1985: وهي مرحلة تفكك الاتحاد السوفييتي باستقلال جمهورياته الـ 15، وبعد محاولات تمرد على المركز في داخل المنظومة الاشتراكية مثل ما جرى في ألمانيا الشرقية (1953)، وهنغاريا (1956)، وتشيكسلوفاكيا (1968)، ناهيك عن الحساسيات بين أكثر من 150 هوية فرعية للأقليات داخل هذه المنظومة.

ذلك يعني أن الاتجاه التاريخي يشير إلى:

1. إن تفكك ظاهرة الاستعمار الاستيطاني هي ظاهرة تاريخية وتسير بشكل خطي مما يعني ان “إسرائيل” ككيان سياسي محكوم بقوانين ظاهرة الاستعمار الاستيطاني نظراً لطبيعة بنيته، وإن هذا التفكك أخذ مسارَيْن هما: الأول هو انفصال المجتمع الاستيطاني عن مركزه (مثل انفصال المستوطنين في كندا أو أمريكا أو أستراليا أو نيوزيلندا عن مجتمعاتهم الأصلية، وإقامة نظم وكيانات مستقلة)، وما تتشارك فيها هذه الظاهرة هي غلبة أعداد المستوطنين على عدد المجتمع المحلي الأصلي. أما الثاني فهو استمرار التفوق العددي للمواطنين على المستوطنين، وهي المجتمعات التي نجحت ثوراتها في تحقيق الاستقلال مثل الجزائر، وناميبيا، وجنوب إفريقيا…إلخ)، ويضع باتريك وولف Patrick Wolfe الذي يُعَدّ المُنظِّر الأول لظاهرة الاستعمار الاستيطاني “إسرائيل” ضمن المسار الثاني،[13] وهو ما يعني أنها محكومة بالقانون نفسه من حيث الزوال.

2. تُجمع الدراسات التاريخية أن كل كيانات الاستعمار الاستيطاني عرفت الثورات التحررية، وهو ما يعني أن الاتجاه الثوري لتصفية الاستعمار الاستيطاني هو اتجاه خطي أيضاً، وهو ما يعني أن الثورات الفلسطينية هي تجسيد لهذا الاتجاه الخطي أيضاً، فهو اتجاه يعرف التذبذب في حركته، إلا أن اتجاهه العام هو نحو النجاح في خاتمة المطاف.[14]

3. تنامي القواعد القانونية الدولية في اتجاه إنهاء الظاهرة الاستعمارية،[15] فمنذ تأسيس الأمم المتحدة في سنة 1945، كان ما يقرب من ثلث سكان العالم يعيشون في أقاليم تابعة لقوى استعمارية، ولكن مع سنة 2024 لم يتبقَّ من تلك الأقاليم سوى 17 إقليماً صغيراً من بينها فلسطين، وتطور هذا الاتجاه القانوني مع اعتماد الجمعية العامة في سنة 1960لإعلانها التاريخي المتعلق بمنح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة، وضرورة ممارسة جميع الشعوب حقها في تقرير المصير، واعتبار الاستعمار ظاهرة غير مشروعة. وفي سنة 1962 تمّ إنشاء اللجنة الخاصة المعنية بإنهاء الاستعمار لرصد تنفيذ الإعلان المشار له. وفي سنة 1990، أعلنت الجمعية العامة العقد الدولي للقضاء على الاستعمار (2000-1990) الذي تضمن خطة عمل محددة، وبعد عام واحد من نهاية العقد، صدر العقد الدولي الثاني للقضاء على الاستعمار، ثم تبع ذلك إعلان الجمعية العامة الفترة بين 2011 و2020 بوصفها العقد الدولي الثالث للقضاء على الاستعمار. وفي سنة 2020، أعلنت الجمعية العامة عقدها الرابع الممتد حتى سنة 2030 للقضاء على الاستعمار. أما ميدانياً، فقد حصلت 80 مستعمرة سابقة على استقلالها منذ إنشاء الأمم المتحدة، من ضمنها 11 إقليماً كان خاضعاً لمجلس الوصاية في الأمم المتحدة وتمّ استقلالها أو ارتبطت بدولة مستقلة ارتباطاً طوعياً، وتواصل اللجنة الأممية الخاصة بإنهاء الاستعمار رصد الحالة في الأقاليم الـ 17 المتبقية تمهيداً لتيسير تحررها من الاستعمار. وقد أنشئ نظام الوصاية الدولي بموجب ميثاق الأمم المتحدة الذي يؤكد على مبدأ تقرير المصير، ويصف مسؤولية الدول عن الأقاليم الخاضعة لإدارتها باعتبارها “أمانة مقدسة” تسمو فيها مصالح سكان تلك الأقاليم على ما عداها.

ثانياً: وزن التفوق العددي للمجتمع الوطني على المجتمع الاستيطاني الوافد:

تدل المتابعة التاريخية للثورات في المجتمعات التي خضعت للاستعمار الاستيطاني أن النسب السكانية بين المستوطنين وبين السكان المحليين تُسهم الى حدٍّ كبير في تحديد مستقبل الكيان الاستيطاني، فإذا فاق عدد المستوطنين عدد السكان المحليين فإن استقرار الاستعمار الاستيطاني هو الراجح (مثل أستراليا، والولايات المتحدة، وكندا، ونيوزيلندا،…إلخ)، وإذا بقيت النسبة السكانية الأعلى لصالح المجتمع المحلي فإن احتمالات تفكك الاستعمار الاستيطاني هو الأرجح (مثل الجزائر، وجنوب إفريقيا، وناميبيا، وروديسيا، وإندونيسيا…إلخ).

وعملت المجتمعات الاستيطانية على تعطيل التفوق العددي للمواطنين مقارنة بالمستوطنين، فمارست لضمان تفوقها العددي القتل والتهجير القسري للسكان المحليين، كما أن الاهمال الصحي أسهم في ارتفاع معدلات الوفاة بين المحليين، وهو ما يتضح في أن 74% من السكان المحليين في الولايات المتحدة مع بداية الغزو الأوروبي لها تمت تصفيتهم، كما استخدم الاستعمار الاستيطاني عمليات التذويت Internalization للمجتمعات المحلية كمقدمة لاستيعابها وتذويب هويتها الثقافية والتاريخية في هوية المجتمع الاستيطاني من خلال فرض اللغة أو الدين أو العادات والتقاليد والأزياء والفنون…إلخ عليها، وهو ما حاولته القوى الاستعمارية الأوروبية في مناطق من إفريقيا أو آسيا وغيرها.[16]

ولكي ندلل على علاقة التناسب بين السكان المحليين وبين المستوطنين، نشير إلى نسبة المستوطنين في القارة الإفريقية في ذروة مراحل الاستعمار الاستيطاني.

ذلك يعني أن تفوق عدد السكان المحليين على المستوطنين يمثل عنصراً حاسماً في التحرر، ومن هنا فإنّ سياسات التهجير والإبادة والتجويع وترك الأمراض الفتاكة تنتشر، ثم استقطاب المهاجرين من المستوطنين بدوافع دينية أو استثمارية أو عنصرية ليس إلا أدوات تكريس الخلل الديموجرافي لصالح المجتمع الاستيطاني.

وتتطابق معطيات هذا الاتجاه التاريخي مع ظاهرة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وتشير سياسات الإبادة التي تنتهجها حكومة الاحتلال في فلسطين، والتي أثبتتها وادانتها الهيئات القضائية الدولية ومنظمات الأمم المتحدة المختلفة وهيئات المنظمات الدولية غير الحكومية، إلى أن التوجه الإسرائيلي هو لتغليب العنصر السكاني الاستيطاني اليهودي على العدد السكاني للشعب الفلسطيني في فلسطين التاريخية، خصوصاً أن الطرف الصهيوني يدرك أن نسبة الفلسطينيين في فلسطين التاريخية ما زال يفوق نسبة المستوطنين اليهود في كل فلسطين، على الرغم من كل سياسات الإبادة والتطهير العرقي وسياسات التجويع والتهجير ومنع العودة التي تمت ممارستها منذ نشوء الكيان، وازدادت شراسة ووضوحاً منذ طوفان الاقصى.

لكن إدارة الاستعمار الاستيطاني في فلسطين لم تتمكن حتى هذه اللحظة من جعل التوازن الديموجرافي يميل لصالح المجتمع الاستيطاني.

تدل المعطيات الكمية الخاصة بالمؤشرات السكانية أن المجتمع الفلسطيني ما زال متفوقاً على عدد المجتمع الاستيطاني في كل فلسطين التاريخية، وهو ما يشكل العقدة المركزية التي يواجهها الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يفسر سياسات التهجير والتجويع والإبادة وتدمير المرافق والبنى التحتية التي يتَّبعها الاحتلال خصوصاً بعد طوفان الاقصى في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، كما أن المؤشر المستقبلي يشير إلى أنّ التفوق السكاني سيبقى حتى سنة 2035 على الرغم من كلّ الإجراءات الإسرائيلية خصوصاً بعد الطوفان، وهو أمر يفسر دوافع العنف الإسرائيلي المفرط ضدّ المجتمع الفلسطيني.

وللكشف عن أهمية المتغير الديموجرافي، يكفي الإشارة إلى نسبة نجاح الثورات ضدّ الاستعمار مقارنة بالثورات الاجتماعية، ويتضح ذلك في أن نسبة النجاح في ثورات التحرر القومي من الاستعمار التقليدي والاستيطاني أعلى بشكل واضح من نسبة الثورات الاجتماعية وبمعدل 4.56 إلى 1.

لكن التحليل العلمي يشير إلى أن التوازن النسبي بين عدد المواطنين وعدد المستوطنين في فلسطين التاريخية يجعل عبء تحقيق الاستقلال أكثر ثقلاً، فنسبة الفلسطينيين تشكل 51.39% من مجموع السكان مقابل 48.6%، وهو ما يستوجب النظر إلى هذه النسبة من خلال مركزية البُعد السكاني في تحقيق الاستقلال وإفشال المشروع الاستيطاني، فبالعودة إلى نسبة المستوطنين في إفريقيا نجد أنه في الـ 13 دولة التي أشرنا لها في جدول رقم 1 كانت النسبة العامة 8.3%، كما أنها لم تتجاوز 21% في أقصى حالاتها (جنوب إفريقيا)، وهي نسبة أقل كثيراً من الحالة الفلسطينية، مما يستوجب من الطرف الفلسطيني التخطيط الاستراتيجي في هذا الجانب كما سنوضح لاحقاً.

ثالثا: المساندة الدولية:

أشرنا سابقاً إلى تطور القواعد الدولية تجاه الاستعمار بأشكاله المختلفة، وخصوصاً من خلال الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية الحكومية وغير الحكومية، لكن الضرورة تقتضي التنبيه إلى أن التحول في منظومة القيم الإنسانية لا يتم بالتسارع الذي يرنو له المُضطَهَدون، لكن النموذج الجنوب إفريقي ظاهرة تستحق التأمل من هذه الزاوية، وتشير وثيقة للخارجية الأمريكية[21] إلى أن المجتمع الدولي قد بدأ يلاحظ وحشية نظام الفصل العنصري بعد أن فتحت الشرطة البيضاء في جنوب إفريقيا النار على المتظاهرين السود العزل في بلدة شاربفيل في سنة 1960، مما أسفر عن مقتل 69 شخصاً وإصابة 186 آخرين، وقادت الأمم المتحدة الدعوة إلى فرض عقوبات على حكومة جنوب إفريقيا. وخوفاً من فقدان الأصدقاء في إفريقيا مع تحول القارة بسبب إنهاء الاستعمار، نجحت الدول الأعضاء القوية في مجلس الأمن Security Council، بما في ذلك بريطانيا العظمى وفرنسا والولايات المتحدة، في تخفيف مقترحات العقوبات (كما يجري مع فلسطين حالياً)، ومع ذلك، بحلول أواخر السبعينيات من القرن الماضي، نجحت الحركات الشعبية في أوروبا والولايات المتحدة في الضغط على حكوماتها لفرض عقوبات اقتصادية وثقافية على بريتوريا. وبعد أن أقر الكونجرس Congress الأمريكي قانون مناهضة الفصل العنصري الشامل في سنة 1986 (وهو ما يبدو ان بوادره، أي الضغط الشعبي، بدأت تُطل دولياً في المشهد الفلسطيني)، بدأت العديد من الشركات المتعددة الجنسيات الكبرى الانسحاب من جنوب إفريقيا. وبحلول أواخر ثمانينيات القرن الماضي، أصبح الاقتصاد الجنوب إفريقي يعاني من آثار المقاطعات الداخلية والخارجية بالإضافة إلى عبء التزامها العسكري باحتلال ناميبيا.

إنّ إجماع استطلاعات الرأي العام الدولي على تنامي الصورة السلبية لـ”إسرائيل” بعد طوفان الاقصى أمر لا مجال لإنكاره، كما أن مراجعة العناوين الرئيسية لأبرز الصحف العالمية تؤكد هذا التوجه، ويكفي الإشارة إلى الخلاصات التي نشرتها أبرز المجلات الغربية والتي تشير في إحداها إلى أن استطلاعاً شمل 43 دولة دلّ على أن النسبة المئوية للأشخاص الذين ينظرون إلى “إسرائيل” بشكل إيجابي بعد طرح النسبة المئوية التي تنظر إليها بشكل سلبي قد تراجع بنسبة 18.5% في الرأي العام الدولي تجاه “إسرائيل”، وأن التراجع كان في 42 دولة من الـ 43، وكان حاداً في بعض الدول مثل:

  • اليابان من -39.9% إلى -62%.
  • كوريا الجنوبية من -5.5% إلى -47.8%.
  • بريطانيا من -17.1% إلى -29.8%.

ومن المؤكد أن قرار المحكمة الجنائية الدولية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu ووزير دفاعه السابق مؤشر على التحول العميق في صورة “إسرائيل”، خصوصاً في المجتمعات التي كانت ضمن المساندين بقوة للاستعمار الاستيطاني في فلسطين، وهو ما يمكن تلمسه من عناوين الصحف الغربية التي اعتبرت القرار “نقطة تحول” في الموقف الدولي من “إسرائيل”.[23] ويتدعم هذا التوجه بقرارات محكمة العدل الدولية International Court of Justice في كانون الثاني/ يناير 2024 (الخاصة بالتدابير المؤقتة ضدّ “إسرائيل بخصوص الابادة الجماعية)، وفي تموز/ يوليو 2024 باعتبار الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة والقدس “غير مشروع” والذي وافق عليه الاتحاد الأوروبي،[24] وكلّ ذلك يشير إلى بداية في التحول تجاه النظرة لـ”إسرائيل” بعد مرحلة طوفان الأقصى.

رابعاً: النتائج:

تدل دراسة ظاهرة الاستعمار الاستيطاني على أن المتغير السكاني يمثل عاملاً حاسماً في إدارة الصراع، وهو ما يستدعي التنبه للظواهر التالية:

1. ضرورة توفير الظروف لتقليص فرص الهجرة الدائمة أمام الفلسطينيين في فلسطين أياً كانت العوامل الدافعة للهجرة، فالمعركة الديموجرافية تمثل عنصراً اساسياً في فرص التحرر، ويبدو لنا أن التخطيط الصهيوني المستقبلي بعيد المدى سيجعل من التهجير بكل الوسائل هو دالته المركزية، وهو ما يستدعي تشكيل فرق بحثية فلسطينية لتحديد كل أسلوب من الأساليب المتوقعة للتهجير، ثم تحديد الخطوات الاستباقية التي يجب العمل على إعدادها لإفشال تلك الخطط.

2. تشجيع تطوير الريف الفلسطيني لمنع الهجرة من الريف إلى المدينة لإبقاء الانتشار السكاني في أكبر قدر من المساحة الجغرافية المتاحة، وعدم التركيز على تطوير المدن بالكيفية التي تتبناها سلطة التنسيق الأمني حالياً، لكي لا تكون نقاط جذب تكدس سكاني وتتحول إلى نمط جديد من أنماط البانتوستانات كما كان الوضع في جنوب إفريقيا، أي أن الضرورة تقتضي في الظروف الحالية أولوية التنمية الريفية الفلسطينية على “تغذية النزعة الاستهلاكية” في المجتمع الحضري الفلسطيني. وتؤكد المؤشرات الكمية هذا التوجه، إذ ارتفعت نسبة الحضر إلى الريف في الضفة الغربية بين 1967 (الاحتلال)، و1993 (اتفاق أوسلو)، والوضع الحالي (2023)، من 51% إلى 69% إلى 78%،[25] وهو أمر يعيدنا إلى نظرية فرانز فانون Frantz Fanon وطبيعة التطور خلال الكفاح ضدّ الاستعمار الاستيطاني، إذ يرى فانون أن التطور والتنمية في ظلّ الاستعمار لهما خصوصياتهما التي يجب أن تكون رافداً للمقاومة.[26]

3. مواصلة المقاومة بكافة أشكالها، وضرورة العمل على استمرار فعالية محور المقاومة، ولعل ارتفاع الهجرة اليهودية المعاكسة بعد طوفان الأقصى مؤشر على أهميته في تغذية مسار الخلل الديموجرافي لصالح المجتمع الفلسطيني على حساب حجم المجتمع الاستيطاني، فقد ارتفعت نسبة الهجرة المعاكسة إلى خارج فلسطين بعد الطوفان بمعدل 285% طبقاً للإحصاءات الإسرائيلية،[27] وهو متغير مركزي في تفكك ظاهرة الاستعمار الاستيطاني.

مواضيع ذات صلة
ضربة هاليفي الاستباقية وجراءة ويتكوف التفاوضية
ضربة هاليفي الاستباقية وجراءة ويتكوف التفاوضية

يناير 21, 2025 7:36 م

في ذروة الهجوم العسكري على جنين الذي اعلن عنه من مكتب نتنياهو تحت عنوان عملية “الجدار الحديدي”، فاجأ رئيس اركان...
هل يمكن التأثير في ترامب؟
هل يمكن التأثير في ترامب؟

يناير 21, 2025 7:20 م

برغم اندلاع عشرات المظاهرات الحاشدة المنددة بالدعم الأمريكي اللامحدود للعدوان الصهيوني على قطاع غزة، وبرغم اشتعال الجامعات بتظاهرات مماثلة، وبرغم...
أسرى
أسرى

يناير 21, 2025 6:03 م

ما كان للأسير الفلسطيني أن يصمد لولا معرفته المسبقة بأن هناك ثلة مجاهدة تدافع عنه بسلاحهم البسيط، كما دافعت عن...
“السلطة” تنسحب من جنين والاحتلال يدخل مكانها ويرتكب مجزرة
“السلطة” تنسحب من جنين والاحتلال يدخل مكانها ويرتكب مجزرة

يناير 21, 2025 5:16 م

السلطة الفلسطينية ومنذ تسلم رئيسها محمود عباس السلطة في رام الله لم تظهر أي نوع من المقاومة أو الممانعة لطلبات...
صمدت المقاومة فانتصرت .. هل تُستأنف الحرب؟
صمدت المقاومة فانتصرت .. هل تُستأنف الحرب؟

يناير 21, 2025 11:14 ص

صمدت المقاومة، فانتصر الكف على المخرز، وباءت أشرس وأطول عملية عسكرية تشنّها “إسرائيل” في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي بفشل ذريع...
أم موجوعة من الاشتياق خرجت من الأسر و”غصة في قلبها”
أم موجوعة من الاشتياق خرجت من الأسر و”غصة في قلبها”

يناير 20, 2025 9:22 م

على مدار 160 يوما كانت حبيسة العزل الانفرادي في إحدى أسوأ وأقدم الزنازين في قبية دولة المرتزقة.يتكرر اعتقالها منذ نحو...