ماذا لو لم تكن عملية السابع من أكتوبر؟
عاطف الجولاني – السبيل
يسهل على بعض المعارضين والمشككين بجدوى عملية 7 أكتوبر 2023 استحضار الحكمة بإثر رجعي، وتسويق رفضهم لها بنتائجها المؤلمة على صعيد عمليات القتل والتدمير وما ارتكبه الكيان الصهيوني من مجازر وجرائم إبادة راح ضحيتها عشرات الآلاف وجرى خلالها تدمير المنازل والبنى التحتية ورافقها معاناة إنسانية كبيرة.
والسؤال الذي يفرض نفسه بعد مرور عام على طوفان الأقصى: ماذا لو لم تكن عملية السابع من أكتوبر، هل كان وضع القضية الفلسطينية ومعادلات الصراع والمواجهة بين المقاومة والكيان الصهيوني أفضل حالاً؟
إجابة السؤال ليست بالأمر الهيّن، فتصوّر “ما لم يكن لو كان كيف سيكون” أمر بالغ الصعوبة ويحتاج قدرة على التنبؤ والاستشراف والتخيّل لواقع افتراضي لم نعايشه بل عشنا نقيضه. كما يتطلّب قدرًا عاليًا من الموضوعية والتجرّد من الأهواء والانحيازات السياسية والإيديولوجية والعاطفية.
وفي كل الأحوال ستظل إجابة السؤال موضع تشكيك ورفض من أصحاب الرأي المخالف أيًا كانت منطقيتها ودرجة إقناعها، لكن ذلك لا يقلل من أهمية الإجابة على السؤال، كي يتم استخلاص الدروس والعبر والاستفادة منها لقادم الأيام.
***
وللإجابة على السؤال يغدو ضروريًا استحضار ما كان عليه مشهد القضية الفلسطينية خلال الفترة التي سبقت عملية 7 أكتوبر، حيث يمكن الوقوف على المؤشرات والمعالم المهمة التالية:
1.هيمنة اليمين الديني المتطرف على القرار السياسي في الكيان الصهيوني، وتحكّمه بمصير الائتلاف الحكومي، وخضوع بنيامين نتنياهو لرؤية اليمين وأجندته وأولوياته، خصوصًا ما يتعلّق بحسم مستقبل الضفة الغربية وضمها، والسيادة على القدس والمسجد الأقصى. حيث انتقل الأمر من مساحة التفكير والتخطيط إلى مساحة الحسم والتنفيذ السريع، وخلال ولاية الحكومة الحالية التي يحظى فيها تيار الصهيونية الدينية بتأثير قوي.
ولو أن عملية 7 أكتوبر، كفعل مبادر من جانب المقاومة، تأخرت ولم تحصل في توقيتها، لربما كنا نتكلم الآن بعد عام من العملية عن إنجاز اليمين الصهيوني لخطوات متقدمة وأشواط بعيدة في مجال تصفية القضية الفلسطينية، وإحكام السيطرة على الضفة وضمها، وبسط السيادة على القدس والأقصى. ولكان عنصر المبادرة في يد اليمين الصهيوني المتطرف، يرسم الخرائط كيف يشاء، ويحدد التوقيتات، ويفرض الوقائع التي يريد، معززًا بتأييد دولي منحاز، وبضعف وعجز وتجاهل عربي وإسلامي.
2.تغلغل اليمين الديني المتطرف بصورة ممنهجة قبل 7 أكتوبر 2023 في المؤسستين العسكرية والأمنية في الكيان الصهيوني، وترجمة ذلك بسيطرة عناصر الصهيونية الدينية على كثير من المستويات القيادية في المؤسسة العسكرية، وبعملية تسليح واسعة لعشرات آلاف المستوطنين في الضفة الغربية أشرف عليها وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير. ولم يُخف اليمين المتطرّف، قبل 7 أكتوبر، أجندته لتنفيذ خطة التهجير القسري للفلسطينيين من الضفة، والسعي للقضاء على بنى المقاومة في الضفة وإعادة احتلال قطاع غزة عسكريًا.
ولو أن عملية 7 أكتوبر تأخرت أو لم تحصل، لكان من المُرجّح أن يكون عنصر المبادرة عسكريًا وأمنيًا لصالح الجانب الإسرائيلي في السعي لتصفية المقاومة في الضفة واستهدافها في القطاع. ما يعني أن تأخير المبادرة بتنفيذ عملية 7 أكتوبر لم يكن ليؤخر استهداف المقاومة سوى لفترة وجيزة قد لا تتجاوز أسابيع أو أشهر قليلة، وكان المرجّح أن تُستهدف في ظروف أكثر صعوبة، تفقد فيها عنصر المبادرة، وتُفرض عليها معركة تحدد حكومة اليمين المتطرّف توقيتها وشكلها، وربما نتائجها.
3.نجاح الاحتلال في تهميش القضية الفلسطينية وتجاوزها والقفز من فوقها لبناء علاقات تطبيعية وتحقيق اختراقات سياسية وأمنية واقتصادية ونفسية غير مسبوقة لكثير من الدول والمجتمعات العربية والإسلامية.
ولو أن عملية 7 أكتوبر تأخرت بضعة أسابيع فقط، وليس شهورًا، لكانت جهود التطبيع المحمومة مع العربية السعودية وصلت مآلاتها ونهاياتها المرغوبة إسرائيليًا وأمريكيًا، لتدشّن مرحلة جديدة وخطيرة من الانهيارات الواسعة في جدر المناعة العربية والإسلامية، ولتفتح الطريق أمام موجة تطبيع واسعة مع الأقطار العربية والإسلامية لا يعلم مداها إلا الله. حينها كان سيتسع الخرق على الراتق، ويصعب الاستدراك ومعالجة الاختلالات.
4.تراجع مكانة القضية الفلسطينية وغيابها عن جدول الاهتمامات العربية والدولية، وتجاوز الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني واختزالها في الحقوق الاقتصادية أو ما يسمى مشاريع السلام الاقتصادي.
ولولا معركة طوفان الأقصى هل كانت القضية ستتقدم لتحتل موقع الصدارة في اهتمام العالم لتكون القضية الأولى عالميًا على مدار عام كامل، أم أنها كانت ستدخل حيز التجاهل والنسيان عربيًا ودوليًا، وهل كنا سنجد الوعي والتعاطف العالمي الذي نجده حاليًا على المستويين الرسمي والشعبي، وهل كانت القناعة عالميًا ستترسخ كما هو حاصل الآن بضرورة معالجة أسباب الصراع وإقامة الدولة الفلسطينية وإنجاز حقوق الفلسطينيين، وهل كانت الرواية والسردية والسردية الفلسطينية للصراع هي الرائجة والسائدة عالميًا وتعيش أفضل حالاتها وأوضح تجلياتها، وهل كانت الرواية والسردية الإسرائيلية التي هيمنت على قناعات قطاعات عالمية واسعة على مدى عقود ستتراجع وتُنسف وتتحول صورة “إسرائيل” إلى كيان سادي مجرم يرتكب أبشع المجازر وجرائم الإبادة؟
***
على أن أخطر ما يواجه الكيان الصهيوني بعد عام من معركة طوفان الأقصى، وبدأت ملامحه تتضح مؤخرًا، ولا شك أنه سيشغل اهتمام المفكرين والخبراء الإسرائيليين والغربيين في قادم الأيام، يتعلّق بفرص تورّط “إسرائيل” بحرب استنزاف طويلة الأمد مع حالة مقاومة إقليمية واسعة تجد نفسها بعد عام من معركة طوفان الأقصى أمام صلفٍ وعنادٍ ورغبةٍ جامحةٍ من نتنياهو لتوسيع الحرب وإدامتها في غزة ولبنان، الأمر الذي يضع أطراف المقاومة أمام استحقاقات جديدة ومقاربات واستراتيجيات مغايرة.
ولعل الخطاب الأخير للناطق العسكري باسم كتائب القسام أبي عبيدة في ذكرى مرور عام على عملية 7 أكتوبر يشير بصورة واضحة إلى تزايد فرص توجّه اطراف المقاومة لاعتماد استراتيجية جديدة في مواجهة الاندفاعة العدوانية الإسرائيلية، تقوم على تحويل استمرار المواجهة مع الاحتلال على جبهات متعددة ولفترة طويلة، من حالة ضاغطة على قطاع غزة ولبنان إلى فرصة لاستنزاف العدو وإنهاكه بصورة تدريجية ومستدامة.
أبو عبيدة أكد في كلمته أن “خيارنا هو الاستمرار في معركة استنزاف طويلة ومؤلمة مع العدو، والمعارك أثبتت نجاح هذا الخيار، والعدو المتغطرس لا يفهم دروس التاريخ ولا حقائق الواقع ولا ثقافة شعبنا وأمتنا”. وفي اليوم التالي 8 أكتوبر أكد نعيم قاسم نائب أمين عام حزب الله في خطابه بذكرى مرور عام على مشاركة الحزب في معركة طوفان الأقصى أنه “كلما طالت الحرب سيزداد مأزق إسرائيل”، وأضاف: “هذه حرب من يصرخ أولًا، ونحن لن نصرخ”.
لقد رسخت معركة طوفان الأقصى مشروع وحدة الساحات والجبهات بين أطراف حالة المقاومة الإقليمية، ونقلتها من حيز الفكرة والتنظير إلى مساحة الفعل والممارسة العملية المتواصلة على مدار عام كامل. وكلما تراجعت احتمالات وقف الحرب في غزة ولبنان، تزايدت فرص توافق أطراف المقاومة على تبني استراتيجية الاستنزاف والإنهاك طويل الأمد للمشروع الصهيوني الذي تكرست القناعة بأنه يهدد جميع الأطراف.
ومن الواضح أن نتنياهو يتهوّر ويندفع دون كوابح إلى الأمام، بإغراء نجاحات حققها في أيام المواجهة الأولى مع حزب الله في ضربات البيجر واللاسلكي واغتيال أمين عام الحزب وأبرز قياداته العسكرية. وهو إن لم يدقق في حساباته وتقديراته، قد يستدرج الكيان الصهيوني بالفعل إلى حرب استنزاف لا تقتصر تداعياتها على أحد طرفي المواجهة دون الآخر.
وفي ضوء المعطيات الراهنة، ثمة أسئلة مهمة برسم الإجابة خلال الفترة القادمة:
-فإذا كان المجتمع الإسرائيلي استطاع خلال من مواجهة طوفان الأقصى التكيّف مع عمليات حزب الله المتواصلة التي هددت حياة بضعة عشرات الآلاف من المستوطنين في مستوطنات الشمال الفلسطيني المحتل المحاذي للأراضي اللبنانية، فهل سيقوى الإسرائيليون على التكيّف وتحمل الوضع القائم حاليًا لفترة طويلة تمتد شهورًا بعد أن اتسعت مساحة التهديد لتشمل حيفا وما بعد حيفا، مهددة أمن مئات آلاف الإسرائيليين؟
-وإذا ما استُدرج الجيش الإسرائيلي وتوغّل في عمق الأراضي اللبنانية خلال الأيام القادمة، هل يضمن عدم التورط بمستنقع حرب بريّة طويلة تعزّز من قدرة المقاومة اللبنانية على استنزافه في حرب عصابات منهكة بدأت ملامحها تتضح مع الأيام الأولى لمناورات الجيش المحدودة في المناطق الحدودية؟
-وفي حال اندفعت المواجهة لحرب استنزاف ومعركة طويلة مستدامة، هل ثمة ما يحول دون فتح ساحتي لبنان وسوريا لقدوم عشرات آلاف المقاتلين من أصقاع العالم الإسلامي، سنّة وشيعة، بدافع الجهاد المقدس ضد عدو يحتل الأرض ويغتصب المقدسات، ما يلوّح بتكرار نماذج أخرى حصلت خلال سنوات سابقة في أفغانستان وغيرها؟
***
بعد عام من طوفان الأقصى يتضح أن المنطقة دخلت مرحلة جديدة مغايرة تفتح الأفاق على احتمالات مفتوحة بكل الاتجاهات، وما كان مستبعدًا ومؤجلًا لآماد بعيدة، ربما فرض نفسه سريعًا على طاولة النقاش. وإذا لم تضغط الأطراف المعنية باستقرار المنطقة من أجل لجم اليمين الصهيوني المتطرف المنفلت من عقاله والذي يرى في معطيات اللحظة الراهنة فرصة قد لا تتكرر لحسم عديد الملفات المعلقة، فإن المنطقة قد تكون قريبًا أمام تطوّرات يصعب معها الاستدراك والعودة إلى الوراء