في امتحان غزة.. ماذا بقي للعالم من شرف “الجاهلية”؟!
كتب: عبد الرحمن نجم
ما أشرفَ زمن الجاهلية الأول؛ إذ كان العربي عابد الوثن، وائد البنات، من الغيرة على قومه وعِتْرته، والنخوة لجيرانه، والنجدة للغريب الملهوف، والتأبي على قَبول الضَّيم لنفسه أو لغيره، ما لا نكاد نصدق اليوم أنه كان موجودًا في تلك الأيام الخالية! ففيم كان جاهلية إذن؟
لا عجب، فثَمَّ خلط؛ فـ”زمن الجاهلية” إنما يعني ذلك العصر الذي لم يكن فيه للعرب كتاب مقدس يرجعون إليه؛ فهو إذن معنًى ديني صِرْف، وليس معنًى ثقافيًّا أو حضاريًّا أو علميًّا لسِمة ذلك العصر القديم الذي فشت فيه الأمية.
وعلى هذا؛ ماذا يمكن أن نسمي هذا العصر مع ما للعالم الإسلامي فيه من كتاب مقدس خالد، وحربُ الإبادة في غزة تتواصل منذ ما يزيد على عام، من دون أن يوقفها هذا العالم الإسلامي، مع قدرته على ذلك؟!
يشكل نشوب الحروب كشفًا علنيًّا لكذبِ عالم الألفية الثانية أو “العالم الحر المتحضر” أو حضارة القرن الواحد والعشرين، حيث الحضارة في معناها العصري المتداول لا تعدو أن تكون مذهبًا نفعيًّا ماديًّا؛ فهي غابة إسمنتية ممتدة تسمى ناطحات السحاب، وكومة كبيرة من النفايات الـمُمِيتة للفطرة والعدل والأخلاق تسمى: “التحرر” و”الحداثة” و”الشذوذ” و”حرية المعتقد” و”الرأسمالية” و”الجندرية” و”حرية المرأة” ..إلخ، مَشْفوعًا بظاهرة إلحادية عالمية تسعى لتسويغه، والحض عليه، لصالح المناداة بـ”الإنسانية” دينًا كونيًّا للبشر جمعاء!
تنظيم العالم
فليس مهمًّا البتة أن تكون مؤمنًا بإله يُشرِّع، بل أن تؤمن بالإنسانية وحسب؛ فالإنسان نفسه هو المرجعية الأخلاقية والقِيَمية لنفسه ولعالمه، لا الإلهُ الذي توحدت فيه الرسالات السماوية كافة على اختلاف التصورات الـمُحرِّفة له!
على حينِ أن “إنسان الفطرة” -بالمفهوم الاستخلافي لا “المادي النفعي”- هو مقياس الحضارة التي تجعل من هيمنة التوحيد “انعكاسًا للطريقة التي يريد بها الإسلامُ تنظيم هذا العالم” -كما يقول علي عزت بيغوفيتش- “وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ..” [المائدة: 48].
وهنا مَأتى الخطر على تلك الإنسانية المستكبرة، فـ”مِن مأمنه يؤتى الحَذِر”، فلقد حفرت قبرها بيدها حين أناطت أمرها إلى: حاكمية بشرية لا حاكمية إلهية؛ ذلك أنه حين يكون الإنسان نفسه مصدرًا للتشريع الأخلاقي، ومرجعيةً حاكمةً عليه، تكون الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتهجير القسري والتجويع والتعطيش والتقتيل، وحرق النيام بالخيام، عملًا يُسوِّغ للمعتدي إجرامَه ووحشيَتَه باسم “حقه في الدفاع عن نفسه”!
ولعل من أوجع ما ابتُليت به هذه الأمة في أيام الصبر هذه اضْطِرارُها إلى التبرير لأبنائها قبل أعدائها بحقيقة المعركة العقائدية من حيث هي جزء من عقيدته التي يستمدها من القرآن، وبالأخص سور: الإسراء والأنفال والأحزاب والتوبة ومحمد والممتحنة.
ما الحيلة مع الضعف؟
أهل الحق هم قلة قليلة، فهل يمكن أن يسهم عدم تكافؤ موازيين القوى العالمية، المتداعية عليهم، في تأخير النصر؛ بسبب تسرع أهل الحق، وعدم حسبانهم الصحيح للعواقب، وللمدة التي سيستغرقها العدوان عليهم؟
السؤال الخاطئ لا شك يؤدي إلى جواب خاطئ مثله، وهذا ينسحب تمامًا على هذا السؤال؛ لكونه يَفترض لصحة الجهاد في سبيل الله أنه لا بد أن يكون مُراعيًا لقوة الباطل؛ بمعنى أن تكافِئ قوةُ الحق قوةَ الباطل كشرط أساسي من شروط الجهاد!!
والقارئ المسلم يفهم جيدًا سبب بطلان هذه التبرير العاطفي لعوام المسلمين؛ لأنه يعي أن الجهاد -في أصل سببه- كُرهٌ فُرِض على الجماعة المقهورة المظلومة المغلوبة، لا القوية الغالبة، لاسترجاع حق، وهذا بداهةً يعني أنه إنما كُتِب على الضعفاء قبل الأقوياء، فالقوي لا يحتاج إلى ما يَرد عنه الضعفاء.
القلة شرط النصر
وعلى هذا التقرير نفهم أن الله الذي وعد عباده بالاستخلاف في الأرض، والتمكين لدينه، إنما أراد أن يرفع عن الأمة ضعفها بالجهاد؛ فالجهاد -بالمفهوم القرآني- شَرْطٌ لرفع الضعف، وهو حِيلة المسلم الضعيف وسلاحه؛ للفكاك من وَهَنه وهَوَانه، بل إن النصر للضعفاء أَنْزلُ منه على الأقوياء منهم، فهو أَوْكد نزولًا على الضعفاء، حتى لَكأن القارئ للسيرة النبوية وأخبار الفتوحات الإسلامية يكاد يجزم أن قلة عدد وعُدة المسلمين كانت سبب الغلبة على أعدائهم، ولَكأن القلة شرطُ النصر، ولكن: لماذا هذا؟
لأنه لو تعلَّق النصر بالتفوق العسكري للمحارب لَكَانت نِسبة النصر إلى الله محل شك في قلوب المؤمنين مع اعتيادهم النصرَ بما أعدوا له، فلمَّا كان النصر يجيء دائمًا مع القلة؛ كان هذا أَنْفَى للشك من نفوسهم، وأقوى ليقين المسلم على نسبة النصر الخالص لله وحده.
وقد أعلمنا الله في كتابه، ورسوله صلى الله عليه في أحاديث الفتن والملاحم أن مَحل النصر مع القلة، واقرأ قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ(*)الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ” [الأنفال: 65-66].
أما آن الأوان للدخول في السِّلم كافة؟
إن جوقة المتخاذلين الذين يَستشهدون على إبطال أَصَحِّ جهاد على الأرض اليوم بآية: “وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ..”، يكفيهم منا أن نطالبهم بقراءة الآية التي قبلها، لنرى المأزق والورطة في تعابير وجوههم حين يجدون أن آية السِّلْم مسبوقة مباشرة بـ: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ..“؛ إذِ القرآن يُفَسر بِسباق الآية (ما قبلها) ولِحَاقها (ما بعدها)؛ لأنه وحدة موضوع واحدة، ومجاز تشريعي واحد يُفْهَم ببعضه، أما السِّلم الذي يُشِيعه المدلسون فهو سلم الاستسلام للعدو، والتطبيع معه، وهو ذلك السِّلم الذي يكون عُذرًا لترك الجهاد، وتسويغًا لتعطيله.